Sunday, November 8, 2015

حشو مؤقت

"الالم هو ما يجعلنا نشعر باننا لازلنا احياء" .... ههههه وبتتالم من ايه يا ياسر؟ .. قالتها ساره وهي تقف ممسكة بالباب الزجاجي لمكتب ياسر عبد الصبور محلل المخاطر باحدي شركات تداول الاوراق الماليه ... كانت ساره تقف وقد تجسدت كانها احدي تماثيل افروديت ... فقد امالت جسدها ناحية الباب وارتكزت علي الساق اليسري وداعبت الارضيه الخشبيه بقدمها اليمني بطرف حذاء انيق ... كان المشهد اسطوريا بساقيها الرائعتان حيث تظهران من من تحت تنوره قصيره جعلت ياسر عاجز عن الكلام ... ساره المصري او كما يطلق عليها زملائها التهديد الثلاثي فهي (جميله – ذكيه – ناجحه) وايضا مطلقه ... مرتين ... يشاع انها تفترس الرجال بانوثه متقده وشخصيه قويه وذكاء حاد ... وبالرغم من انها تجيد اختيار فرائسها الا انها تستمتع بالتلاعب بالرجال عموما والسذج امثال ياسر خصوصا.
اشار لها ياسر بالدخول ... ثم اردف بكلمات متثاقله .. انتي لحقتي شوفتي التويته بتاعتي ده انا يادوب لسه كاتبها ... تقدمت ساره نحوه بثبات واقتربت منه وبصوت اشبه بالهمس .. انت عارف اني بيعجبني كلامك وبعدين سلامتك وشك وارم ليه؟ ... تقريبا حشو ضرسي وقع وعاوز اروح ... قاطعته ساره ضرسك برضو ولا انجي ايديها تقيله ... ثم اطلقت ضحكه ذات مغزي ... انفعل ياسر صائحا بطلي الهزار السخيف ده انتي عارفه اني مش بحب كده ... اقتربت منه اكثر ومالت نحوه بطريقه جعلت صدرها البارز مقابل وجهه مباشرة ... اضطربت ملامح ياسر اكثر واشاح بنظره وهم بالوقوف ... فاستدارت بحركه مباغته طب انا طالعه ادخن بره الجو جميل لو حابب ابقي حصلني او ابقي كلمني بالليل وواشرح لي ليه الالم هو مايجعلنا نشعر باننا لانزال احياء.
ضحك ياسر في داخله ... هي طبعا فاكره انها بتلعب بيا .. فاكره نفسها ذكيه .. مش عارفه اني انا اللي بلاعبها بصورة الشاب الساذج ... ناسيه ان اللي انا وصلت له ده بعبقريتي انا.
مخطيء من يظن ان ياسر شاب ساذج ... فهو ابن الاستاذ عبد الصبور الموظف باحدي شركات التامين ... بحكم نشاته المتواضعه في حي شعبي كان محمل باحلام التفوق والطموح في مستقبل افضل .. كان حديث والده الدائم عن الحوادث والمخاطر يشحذ همته في دراسة المواقف واتخاذ القرارات برويه وتفكير بعيد المدي ... حتي انه بعد اتمام الثانويه العامه وحصوله علي مجموع كبير رفض الالتحاق بكلية الطب او الهندسه كما يرغب والده ... وفضل الالتحاق بكلية الاقتصاد والعلوم السياسيه طمعا في مستقبل افضل كخبير ومحلل اقتصادي ... الا ان الطموح دائما ما يصطدم بالواقع ... فبغياب الواسطه كانت فرصة الحصول علي وظيفه اشبه بفرصه اكتشاف حياه علي كوكب زحل ... استطاع والده ان يجد له مكانا كمندوب بيع وثائق التامين في نفس الشركه ... الا انه قرر الا ييأس ... فتقدم للالتحاق بالدراسات العليا بالجامعه الامريكيه كمحاوله لتحصين نفسه بمزيد من الشهادات التي قد تسهل له طريق العبور للعيش كما تمني ... وهناك قابل انجي.
انجي عبد اللطيف ابوغالي ... الابنه الوحيده للتاجر المعروف ... استطاع ياسر الفوز بقلبها خلال فتره وجيزه ... واستطاعت انجي ان توفر له وظيفته الحاليه كمساعده لتحسين موقفه للتقدم بطلب يدها للزواج ... ياسر يدرك تماما ان مفتاح سعادته هو بابقاء انجي سعيده وراضيه ... كان هذا هو شرط ابيها الوحيد فقد قال له حرفيا  "سعادة بنتي فوق اي اعتبار ويوم ما هتزعلها هتبقي انتهيت" ... من اختار عليه ان يدفع ثمن اختياره وقد استمر ياسر في دفع الثمن في كل لحظه وفي كل موقف ... فانجي كابنه مدلله لديها ميول متقلبه ودائما ما تعيب علي ياسر نشاته في حي شعبي ... ومع استمرار الاشارات والتلميحات بكونه من مستوي اقل اتسعت الفجوه وتحول التلميح الي تصريح وصارت تعامله معامله سيئه ... وهو لايقدر ان يعترض ... كان فقط ينتظر اللحظه المناسبه حينما يقوي مركزه في الشركه... وينتظر ايضا ان يصل الي قلب ساره.
جلست انجي في النادي مع صديقاتها في مجلس النميمه الصباحي .. وهو طقس يومي لايمكن التخلي عنه ..يمكن تغيير المكان او الميعاد او حتي طريقة التواصل لتكون عبر المكالمات الهاتفيه والرسائل النصيه ولكن لا يمكن ان يمر يوم بدون مجلس النميمه ... وللحظه تذكرت ياسر والم ضرسه خلال حيث عابر لاحدي صديقاتها عن طبيب اسنان مميز باسلوبه الرقيق وابتسامته الساحره وكذلك قدرته علي اسعاد زبوناته ... وقف الشيطان يبتسم ل انجي في هدوء وهي تقرر ان تضرب عصفورين بحجر واحد ... ان تتعرف بهذا الطبيب الساحر وان تكسب جوله في معركه الحياه الزوجيه وتشعر زوجها باهتمام لم يزر بيتهم منذ ليلة الدخله ... فرتبت الحجز وابلغت زوجها اللذي لم يستوعب هذا القدر من الرعايه ... واتفقا ان يمر بالنادي لتناول الغداء ثم الذهاب لموعد طبيب الاسنان في السادسه مساء.
كانت عيادة الطبيب في احد الاحياء الراقيه المنعزله .. وعلي مدخل البنايه اشار لهم رجل الامن المكلف بالحراسه وسألهم .. حضراتكم رايحين فين ... ثم دقق النظر في وجه ياسر مره اخري ثم ابتسم ... انت ياسر صح ؟؟ ... صاح ياسر ايوه انت تعرفني ... ردد فرد الامن اه انا وائل اللي كنت معاك في الفصل في الابتدائي مدرسة ام المؤمنين ... وائل قابيل مش فاكرني ... اه افتكرتك اهلا ياوائل بالحضن يا راجل ياه سنين طويله فينك وفين اراضيك.
لم تستوعب انجي ما تري بام عينها ... زوجها يعانق رجل الامن في مدخل البنايه في مشهد مهين .. فصاحت غاضبه ياسر هنتاخر علي الدكتور ... شعر وائل بالخجل وتحولت حرارة مشاعره الي جليد بفعل نظرة انجي له ... فهمس لياسر انت طالع لدكتور الاسنان في الدور التاني شكلك عديت يا ابن الايه ده بيقولو كشفه بمرتبي 3 شهور ... ابتسم ياسر في تواضع مصطنع وقال الحمد لله ... امسك وائل يده بجديه وبلهجه ناصحه ردد طب خلي بالك علي اللي معاك ده دكتور سمعته مش حلوه ... امال ياسر راسه مرتين كعلامه لتفهمه النصيحه ثم انطلق ليلحق بانجي في المصعد وقد استعد نفسيا وعصبيا لنوبه من التوبيخ ... وقد حصل ما توقعه واكثر.
انا احب الشعور بالالم .. كان هذا هو رد ياسر علي الطبيب الوسيم عندما ساله عن سبب رفضه للغاز المخدر ... بالفعل ياسر يشعر باللذه المصاحبه للالم ولكنه هذه المره اراد ان يكون واعيا لكل ما يدور حوله ... تحامل علي نفسه بينما الطبيب يقوم بتنظيف اثار الحشو القديم ... وكان حريصا الا تفوته اي نظره متبادله بين الطبيب وزوجته ... فهو يفهم ما تحمله نظرة انجي للطبيب ومحاولاتها لتجاذب الحديث معه ... كان الم كرامته المهدره يتفوق علي الم اسنانه ... ذلك الازيز الصادر من اداة التنظيف بيد الطبيب كان يتنامي ببشاعه في الخلفيه وهو يتابع نظرات زوجته للطبيب مما جعله كالقنبله منزوعة الفتيل ... وفي لحظه هم بالانفجار ولكن الطبيب فطن الي تغير ملامحه واشار للمساعده بانهاء ما بداءه ثم اردف ... حضرتك هي هتحط حشو مؤقت دلوقتي وتزورني بعد يومين نكمل الحشو النهائي.
كان الصمت هو المسيطر علي المشهد ككل ... انجي صامته لانها راضيه بابتسامة الطبيب لها .. وياسر صامت للسيطره علي مشاعر الغضب وخوفا من ان يرتكب حماقه قد تجعله يخسر ابنة ابوغالي .... وعلي الباب وقف وائل صامتا ولكن صمته كان لتردده لاخبار ياسر عن سر عمره 20 عاما ... ولكنه ما ان لمح ياسر قرر ان يقطع الصمت ويريح ضميره ... فعاجله قائلا سلامتك يا استاذ ياسر معلش عاوز اقول لك حاجه ... غمغمت انجي في انفعال قبل ان تصيح انا هستناك في العربيه ورمقت وائل بنظره ناريه هذه المره جمدت الدماء في عروقه ممازاد من صعوبة ما سيقول.
واضح قوي من شكلك انك تعبان وانك لسه خارج من عند الدكتور واساسا الست اللي معاك دي مش طايقه كلامي معاك بس انا لازم اريح ضميري ... كانت الجديه ترتسم علي ملاح وائل وهو يخاطب ياسر الذي كان في دوامه من صراع الافكار بين الثوره كرجل حر او ان يخضع حتي لايخسر ... ولكن وائل تابع ... فاكر لما المدرسه عملت يوم مفتوح وقالو كل واحد يجيب حاجه يلعب بيها ... وانت جيبت العساكر الصيني بتاعتك وضاعت منك؟ ... الصراحه انا سرقتها منك ... وكل ما افتكر انك كنت قاعد تعيط وتدور في كل حته وفتشت عنها في كل شنط الاولاد ماعدا انا ضميري بيوجعني ... وحاسس ان ربنا بعتك ليا النهارده علشان ارتاح من وجع الضمير ده ... سامحني يا صاحبي ... تجمدت الدموع في عيني ياسر الذي ارتسمت علي وجهه ملامح الفزع كانما شاهد شبحا ... ولم يعقب علي كلام وائل ولكنه غادر في هدوء ودموعه تنساب ... وترك وائل لمزيد من عذاب الضمير الممزوج بالدهشه لكل هذا الالم الذي لا يتناسب وضياع لعبه منذ عقدين مضوا.
في الطريق للسياره لم يتمالك ياسر نفسه وهو يتذكر ما حدث في ذلك اليوم ... ضياع اللعبه والبكاء والبحث دون جدور ثم تكرار البحث ثم انصراف الجميع من الطلبه والمدرسين ... ثم محاولته البائسه في البحث مجددا حتي حل الظلام .. فتحول بكاؤه الي صرخات خوف .. حتي عثر عليه حارس المدرسه واقتاده لغرفته واغتال برائته بكل قسوه ... حاول ياسر الهروب من تلك الذكري الاليمه طوال سنوات عمره ... دفن ما تبقي من ذلك اليوم في اعمق مكان استطاع الوصول اليه في ذاكرته حتي لا يستدعيه ... ولكن اليوم جاء وائل بكل بساطه و ازاح الستار عن لوحه جرانيتيه محفور بها كل التفاصيل ... فاضافت اضعاف الالم وهوت به في بئر سحيق من الانكسار.
جلست انجي في السياره تستمع لموسيقاها المفضله ولا تزال مغموره بنشوة الوداع الدافيء من الطبيب الوسيم .. لم يعكر صفو ليلتها الا مشهد ياسر مع رجل الامن ... بيئه ومعفت وهيفضل طول عمره واطي قالتها في عقلها او هكذا تخيلت ... ولكن في الواقع نطقت بها شقتاها وبصوت عالي صادف دخول ياسر السياره ..... لم تكن مشاعر ياسر تحتاج سوي كلمه واحده للانفجار ... مدفوعا بمزيج من الالم والغضب واجهها ياسر وافرغ مكنون صدره ... عبر عما يدور بداخله وصارحها برايه فيها وفي سلوكها نحوه .. او هكذا اعتقد .. ولكن المتابع للمشهد من خارج السياره كان يستطيع ان يميز شتائم جارحه والفاظ نابيه بل وصوت لطمات متكرره.
شعر ياسر بانه استرد كرامته المسلوبه وعبر عن نفسه لاول مره كرجل ... وقبل ان يخرج من السياره القي اليها بكلمة النهايه ... وبينما كان يسير مبتعدا كانت يده تمسك بالهاتف ويتصل ب ساره ... الو ... لسه عاوزه تعرفي ليه الالم هو مايجعلنا نشعر باننا لانزال احياء؟
 

Monday, November 2, 2015

أوعاد

ألفصل الاول - طين

 
القاهره – يناير 1993
كانت المره الاولي منذ عقود ان تنهمر الامطار بهذه الغزاره ... امتلئت الشوارع ببرك المياه المتكونه بين تلال الوحل ولكنها خلت من الماره ... من المجنون الذي يغادر منزله وسط هذا الطقس السيء صاح الاستاذ سيد وهو ينفث دخان سيجارته بينما كان يراقب حبات المطر وهي تنساب علي زجاج نافذة غرفة الكانتين .... فقد تجمع مع من حضر من المدرسين لتناول وجبة الافطار وكوبا من الشاي الدافيء لمعادلة الم البرد والجوع .... اجاب الاستاذ قنديل وهو يرتعش "يا سيد بك المضطر يركب الصعب واحنا مش حمل خصومات ... يا دوب المرتب بيمشينا بالعافيه"  ثم اردف عباس اتاخر قوي هو بيجيب الفول من المريخ .... قاطعهم صوت اجش قادم من ركن الغرفه "هو الطلبه الموجودين قد ايه النهارده" ... كان المتحدث هو استاذ عجمي مدرس الدراسات الاجتماعيه (مادتي التاريخ والجغرافيا) ... اعتدل استاذ سيد وقال "الصبح لاقيت شوية عيال من ثالثه روحتهم ... قولت اكسب فيهم ثواب يروحو يذاكرو شويه وكده كده دول ما عندهومش تيرم .... وجمعت بتوع اولي في فصل اولي رابع علشان يبقو جنب اوضة المدير وهروح ليهم بعد الفطار اراجع معاهم نحو.
ايه هي ثانيه مجاش منها حد؟!! .... تسائل استاذ قنديل متعجبا... ضحك الاستاذ سيد بينما تابع ... كل سنه تانيه مجاش منها غير 6 عيال وفصل تانيه ثالث عشر غاب منه اتنين ... ولاد الكلاب دول مقاطيع ومحادش بيسال عنهم ... الفصل كله موجود ماعدا اثنين ؟ رددها الاستاذ عجمي والتمعت عيناه وهو يهم بالوقوف ... حتي اعترضه استاذ سيد بسرعه وقال ... استاذ عجمي انت تعرف طبيعة الموقف والقرار كان واضح انت ممنوع من دخول الفصل ده بالذات ... احمد ربنا ان اهل الواد اتنازلو عن القضيه والاداره حولته لمدرسه تانيه وانت فضلت  .... في هذه اللحظه حضر عم عباس الفراش وهو يحمل لفائف الفول والطعميه ... لامؤاخذه يا بهوات ابو عطيه كان قافل فروحت لغاية سمير اللي عند محطة المترو
جلس الجميع يلتهمون سندويتشات الفول والطعميه وينتظرون الشاي حين تسلل اليهم صوت استاذ عفيفي وكيل المدرسه القادم من الفناء ..... كان يصيح في لهجة تعنيف "يا ابله انتي شغاله في مدرسه اعدادي بنين ... ولا انتي مش واخده بالك؟؟ ... طب حتي عمل حساب الجو الزفت ده" ... القي استاذ سيد الساندويتش وهرول مسرعا الي الخارج وهو يغمغم استر يا رب وعدي يوم الاشراف ده علي خير... يعني حظي ابقي مشرف في اليوم المطين ده .... كان المشهد يدعو للضحك ... فالاستاذ عفيفي بكرشه المدور يقف في منتصف الفناء مرتديا بدله صيفي و يصيح بصوت عالي علي الاستاذه اوعاد .... هذا هو اسمها اوعاد ... او كما يفضل الطلبه اضافة نقطه ويتهامسون فيما بينهم "ابله اوغاد" ... مدرسة تربيه رياضيه في منتصف العقد الثالث ولا تزال انسه ... عاشت طفولتها حتي التعليم الثانوي مع اسرتها في دولة الكويت حيث والدها معار للتدريس هناك ... لايوجد سبب مقنع لوجود ابله اوعاد في مدرسه حكوميه بنين للمرحله الاعداديه ... فهي دائما ترتدي ملابس قصيره تكشف بها عن سيقان استثنائيه .. بالرغم من كونها متوسطة الجمال الا ان جمال سيقانها كان يطغي علي المشهد ككل.